لا تزال العلاقة بين المواطن والموظف العمومي في المغرب محاصرة بتوترٍ صامت، توترٍ تصنعه سلطة يمسك أحد الطرفين بمفاتيحها، وقلقٌ يحمله الطرف الآخر خشية أن يتحول خلاف بسيط أو سوء فهم إلى تهمةٍ ثقيلة جاهزة: "إهانة موظف عمومي أثناء القيام بمهامه". ورغم أن النص القانوني وضع هذه التهمة لحماية السير العادي للمرافق العمومية، فإن استعمالها اليوم تجاوز حدود الحماية ليصبح سلاحاً سريع الإشهار، يكفي أن يرفع الموظف صوته أو يعبر عن انزعاجه حتى يجد المواطن نفسه محاصراً بمحاضر واستدعاءات وارتباك نفسي غير بسيط.
المعضلة الحقيقية لا تكمن في وجود التهمة، بل في طبيعة فهمها وتطبيقها. فما معنى الإهانة؟ هل كل احتجاج يدخل في باب الإهانة؟ هل مجرد طلب توضيح، أو ملاحظة، أو تعبير عن عدم الرضا يمكن أن يُقرأ على أنه مساس بالاحترام الواجب للموظف؟ وكيف نضمن أن الموظف الذي يتمتع بصفة الضبط والتوثيق لا يستعمل هذا الامتياز لفائدة نفسه كلما دخل في خلاف مع أحد المرتفقين؟
في المقابل، لا يمكن إغفال أن عدداً من الموظفين يتعرضون فعلاً لضغط يومي، ولبعض السلوكيات التي تتجاوز حدود اللياقة. لكن الإشكال يظهر عندما يصبح الموظف هو "الخصم والحكم" في الوقت نفسه؛ يدوّن، يحرّر، يقدّم روايته، ويظل المواطن مطالباً بإثبات عكس ما يحمله المحضر الذي يُنظر له دائماً بعين الاعتبار. هنا بالضبط تتسع الهوة وتختفي العدالة تحت ثقل الإجراءات.
المشكلة ليست في المواطن فقط ولا في الموظف فقط، بل في غياب تعريف دقيق لما يُعتبر إهانة فعلاً، ولما يدخل في إطار التعامل العادي داخل المرفق العام. كما أن القانون لم يمنح المواطن آليات واضحة لحماية نفسه أثناء الخلاف، مما جعل الطمأنينة تُصبح امتيازاً لطرف واحد.
النقاش اليوم يجب أن ينتقل من دائرة الانفعالات إلى دائرة التقنين الواضح:
كيف نحمي كرامة الموظف من الاعتداء اللفظي؟ وكيف في الوقت نفسه نمنع استعمال هذه التهمة ضد مواطن أنهكته الإدارات ودواليب الانتظار؟ كيف نضمن أن يكون المحضر روايةً محايدة لا انحياز فيها؟ وكيف نعطي للمواطن الحق في الاعتراض دون خوف من قلب الطاولة عليه؟
هذه الأسئلة ليست ترفاً قانونياً، بل هي أساس إصلاح علاقة تُبنى عليها ثقة الناس في الدولة ومؤسساتها. فالاحترام لا يُفرض بالقوة، والهيبة لا تُبنى بمجرد ترديد عبارة "أثناء القيام بالمهام". إنما تُبنى بخدمة مواطنة عادلة، وبمسطرة شفافة، وبقانون يحمي الطرفين دون أن يضع أحدهما فوق الآخر.
إعادة النظر في تهمة "إهانة موظف عمومي" ليست دعوةً لإسقاط هيبة المؤسسات، بل دعوة لإعادة الأمور إلى موازينها الطبيعية: احترام متبادل، مساءلة متوازنة، ومسافة واحدة بين الطرفين أمام القانون. فالدولة لا تكبر بإسكات المواطن، ولا تضعف باحترام حقه في السؤال… بل تقوى حين تضمن أن الموظف يمارس سلطته دون خوف، وأن المواطن يلج المرفق العمومي دون رهبة.