عاد ملف التقاعد في المغرب ليطفو من جديد على سطح النقاش العمومي، لكن هذه المرة بنبرة أكثر قلقًا وحدّة، في ظل إشارات متزايدة على أن منظومة المعاشات تقترب من منطقة الخطر. لم يعد الأمر مجرد تحذيرات دورية أو تقارير تقنية تُقرأ داخل المكاتب، بل صار هاجسًا اجتماعيًا يمس حاضر مئات الآلاف من المتقاعدين ومستقبل أجيال كاملة من الأجراء.
منذ سنوات، تُدق أجراس الإنذار بشأن الوضعية المالية لصناديق التقاعد، غير أن المعطيات الأخيرة تعزز الإحساس بأن الزمن لم يعد في صالح الإصلاحات المؤجلة. اختلال التوازن بين عدد المساهمين وعدد المستفيدين، وارتفاع متوسط العمر، وتراكم قرارات ترقيعية سابقة، كلها عوامل جعلت المنظومة هشة أمام أي صدمة اقتصادية أو اجتماعية جديدة.
⸻
معاش ضعيف… وواقع أقسى
بعيدًا عن لغة الأرقام، يعيش المتقاعد المغربي اليوم مفارقة قاسية: سنوات طويلة من العمل تنتهي بمعاش لا يكفي لتغطية الأساسيات. الزيادات المتتالية في كلفة المعيشة، خصوصًا في مجالات الغذاء والعلاج والسكن، جعلت فئة واسعة من المتقاعدين تعيش ضغطًا يوميًا، في وقت يُفترض فيه أن تكون مرحلة التقاعد استراحة مستحقة لا بداية لمعاناة جديدة.
في هذا السياق، جاء بيان فيدرالية الجمعيات الوطنية للمتقاعدين بالمغرب كصرخة تحذير، عبّر فيها عن تدهور الأوضاع المادية والصحية والاجتماعية، معتبرًا أن المعاشات الحالية فقدت معناها الاجتماعي، ولم تعد تضمن الحد الأدنى من العيش الكريم.
⸻
مطالب اجتماعية في مواجهة منطق الحسابات
مطالب الفيدرالية لم تكن تقنية بقدر ما كانت اجتماعية صريحة: رفع الحد الأدنى للمعاشات إلى مستوى الحد الأدنى للأجور، تحسين التغطية الصحية، تمكين الأرامل من الاستفادة الكاملة من معاشات أزواجهن، وتحديث التعريفة الوطنية للعلاجات والأدوية. كما دعت إلى إجراءات تفضيلية لفائدة المسنين في النقل والخدمات السياحية، انسجامًا مع الخطاب الرسمي حول الدولة الاجتماعية.
في المقابل، تصر الحكومة المغربية على أن الإصلاح بات ضرورة لا تحتمل التأجيل، محذرة من أن استمرار الوضع الحالي سيؤدي إلى كلفة أكبر على المدى المتوسط والبعيد، وقد يهدد استمرارية بعض الصناديق.
⸻
النقابات: لا إصلاح على حساب الكرامة
المركزيات النقابية ترفض المقاربة الحكومية التقليدية، معتبرة أن تحميل الأجراء والمتقاعدين كلفة اختلالات تراكمت عبر عقود هو حل سهل تقنيًا، لكنه خطير اجتماعيًا. فرفع سن التقاعد أو زيادة الاقتطاعات، في نظرها، لن يحل جوهر الأزمة، بل سيعمّق الإحساس بالحيف، خصوصًا في ظل معاشات هزيلة لا تواكب التحولات الاقتصادية.
النقابات تشدد على أن تحسين وضعية المتقاعد يجب أن يكون مدخل الإصلاح لا نتيجته، وأن أي مقاربة لا تضع العدالة الاجتماعية في صلبها ستظل مرفوضة شعبيًا.
⸻
البعد السياسي: غموض يفاقم القلق
على المستوى السياسي، يزداد الضغط داخل البرلمان لتوضيح الرؤية الحكومية. نواب برلمانيون طالبوا بخطة واضحة المعالم، تُطمئن المتقاعدين والأجراء معًا، وتحدد مسارًا زمنيًا للإصلاح، بدل الاكتفاء بإشارات عامة تزيد منسوب الغموض.
هذا الغموض يغذي الإحباط لدى فئة واسعة من المتقاعدين، الذين يشعرون بأنهم خارج حسابات السياسات العمومية، رغم أنهم يمثلون شريحة وازنة عدديًا وانتخابيًا.
⸻
إلى أين يتجه الإصلاح؟
بين منطق الاستدامة المالية ومتطلبات العيش الكريم، يقف ملف التقاعد في المغرب أمام اختبار حقيقي. فإما إصلاح توافقي متدرج، يعالج الخلل المالي دون المساس بكرامة المتقاعد، أو استمرار شد الحبل بين الحكومة والنقابات، بما يحمله ذلك من مخاطر احتقان اجتماعي في ظرف اقتصادي حساس.
الثابت اليوم أن التقاعد لم يعد ملفًا تقنيًا مغلقًا، بل قضية اجتماعية بامتياز، وأي تأخير في الحسم المتوازن فيها قد يجعل كلفة الإصلاح، سياسيًا واجتماعيًا، أعلى بكثير مما تتوقعه الحسابات الرقمية